كتابات أدبية


حــبٌ أعـمـى
بقلم / خليل نظير اللوقا

في يومٍ من أيامِ العيد .. خرجتُ وصاحبي محمود , فالهواءُ كان طلقاً والنسيمُ عليل , والأطفالُ يلعبون ويمرحون ببهجةٍ وسرور , وكان الطريقُ مزدحم بالشباب والفتيات , فأخذنا نقتبسُ النظرات .. فسقط نظري على فتاةٍ ساحرة تبدو وكأنها حوريةٌ نازلة , أو كعروس البحر الباهرة .. فوجهها فاتنٌ ساحر , وعينيها لونهما أزرقٌ غامر , وشعرها أشدُ من سواد الليل الداكن , فالتفتُ لرفيقي وقلت : ما رأيكَ يا صديقي ؟ إنها جميلةٌ رائعة وعيونها مثيرة فاتنة , فرد محمود : يا صاحبي لا تتجاوز الحدود , فأنت في بلدٍ كلها قيود , فابتسمتْ وضحكتْ ثم تكلمتْ : لا تخف يا عزيزي فاليومُ عيد والكلُ سعيد ..

فتبعناها سوياً ولم نشعرَ بإرهاقٍ أو تعب فمظهرها الساحر يفتنُ أي ناظر , فعيني تُشَخصُ في أناقة جسمها , وأَخَذتْ تُدقق في تفاصيل جسدها , يا إلهي !! إنها الفتاةُ المنشودة والحبيبةُ الموعودة , تقدمتُ على عجل ورفعتُ نظارتي السوداء عن عيني وغَمزتُها , فرأيتُ ابتسامةً خفية تخرج من شفتيها الندية , فرددتُ بابتسامةٍ مماثلة .. ثم أدارت وجهها , نظرتُ إلي محمود وقلت : آه إني اشعر وكأنها فتحت أوصالَ قلبي ودخلت في أوتار عقلي .. رد محمود مبتسماً : لا أستطيع التصديق إنها ساحرة يا رفيق .. فأنا صاحب الأيام الخوالي لم أتمالك نفسي .. وحالُك من حالي , فقاطعته وقلت : لا ترصد لي ذكرياتك المريرة وقِصصك العسيرة , اتركني أفكرُ فيما أرى فحقاً إنها أجملُ ما رأيت ..

قطعت الفتاةُ الطريق ودخلت طريقاً فرعياً يبدو خالياً من زحام الناس , فلحقنا بها .. وفجأةً أدارت وجهها علينا وابتسمتْ , فقلتُ : يا محمود أريدُ أن أتحدثَ إليها وأتعرفَ عليها .. فاتركني دقائق معدودة لنصل لأهدافنا المنشودة .. ذهب محمود وظللتُ أسير ورائها ثم تقدمتُ منها وقلت لها : عيدٌ سعيد .. فردت علي وهنأتني .. وما أن سمعتُ نبرةَ صوتها الذي اخترق جدران قلبي وسكن في معقل أذني .. أصابتني رعشةٌ غريبة ورجفةٌ مريبة , ثم قالت : أنا وصلتُ إلي بيتي هل من شيءٍ تريده ؟ فضحكتُ وقلت : كنت أودُ التعرفَ عليكِ والأمورُ الآن بين يديكِ .. فردتْ بابتسامةٍ عريضة وأشارت على خاتمٍ بيدها وقالت : إنني مخطوبة وحياتي الآن مع شخصٍ مرهونة .. وقع ردها علي كالصاعقة .. وبدتّْ عليَ معالمُ حزنٍ وأسى ولم أستطع الكلام .. وتركتني أقفُ وحيداً .. ودخلتْ منزلها , ظللتُ واقفاً متجمداً حتى أتاني صاحبي محمود .. فسردتُ له الحكاية وآسى ومرارة الرواية , فقال : لا تحزن يا صديقي فقد مررتُ بأشد من تلك المحنة الحزينة .. فطريق الفتياتِ مسدود والداخل إليه مفقود .. رفعتُ رأسي أناظرُ بيتها , فإذا بها تقفُ على الشرفةِ وتلوح بيدها البيضاويتين .. فرددنا لها إشارة السلام وتركناها ..

عدتُ إلي بيتي متعباً مرهقاً .. فألقيتُ بجسدي على السرير , ووضعت رأسي على الوسادة أفكر في صورتها التي لم تفارقُ مخيلتي , وصدى صوتها الذي يدبُ في أوصال أذني .. ثم قلتُ لنفسي : يا لها من تجربةٍ حزينة وقصةٍ أليمة , لقد فرقنا القدر .. وأبعدتنا سنة الحياة .. ولكن ربما الأيام القادمة ستكشف عن حبٍ جديد وعشقٍ أبدي أكيد .. ثم غلبني النُعاس واستسلمتُ للنوم وغمضتُ عيني .. وتركت قصتي تموجُ في ذاكرتي ..
 
على شاطئ بحر غزة
بقلم/ خليل نظير اللوقا

دعاني أحد أصدقائي لأرافقه إلى البحر , فالإجازة الصيفية قد بدأت , ونريدُ أن نمحي قليلاً من الإرهاق والتعب بعد أيامٍ طوال من المذاكرة والدراسة , فلبيتُ دعوته للذهاب معه وتناسيت همومي ومتاعبي وأطلقتُ العنان لمخيلتي لتصور جمال البحر ومتعة نسيمه ..
وعندما وصلنا للبحر .. نظرتُ بدهشةٍ واستغراب !! فكأنما حدث نزوحٌ سكاني هائل , فليس هناك مكانٌ للجلوس , والبحر مكتظ ٌ بأطفال وشباب وفتيات .. بحثنا طويلاً لنجد مكاناً نجاور به البحر , حتى استقر بنا الأمر على بقعةٍ من الشاطئ تبدو خالية ً أو قليلة الناس ..
ذهب صديقي ليمارس هوايته ويسبح في البحر , وجلستُ على الشاطئ لأستمتع برؤية الأمواج المتلاطمة , ورفعتُ عيني للشمس .. فكانت تعتلي مياه البحر الزرقاء , وتُصور الناس بشتى أحوالهم ومشاكلهم , فكلٌ ترك همومه ومشاغله وتجمعوا لهدفٍ واحد هو المتعة والنسيان ..
وبينما كنتُ جالساً أفكرُ وأتأمل .. قاطعني طفلٌ صغير لا يتجاوز السادسة أو يزيد , يرتدي ملابساً بالية ويبدو عليه أثر الهم والتعب , طلب مني بصوت خافتٍ ضعيف أن أشتري بعضاً من الحاجيات , فدبت بقلبي رأفة غربيةً بحاله , وطلبتُ منه أن يعطيني مسلياً لأتسلى به في جلستي الهادئة , فأعطاني وأخذ ثمنها , ثم ذهب ليكمل قوت يومه ..
فكرتُ بحال هذا الطفل البريء الذي حُمِّلَ أكثرَ من طاقته , فالأطفال الذين كُتبَ لهم أن يعيشوا سنواتهم الأولى للعب واللهو والمرح , قبل أن تلعب بهم الحياةُ بهمومها ومعقداتها , تراهم اليوم يحملون هم البيت والأسرة , فيقضون أيامهم ليبيعوا جزءاً بسيطاً من أغراض أطفالٍ مثلهم , كُتب لهم عكس ما كُتب عليهم ..
وبعد فترةٍ وجيزة .. مرَّ الطفلُ ذاته من أمامي مرةً أخرى , فناديتُ عليه .. فقال لي : ماذا تريد ؟ فأجبته أني أريد منه الجلوس قليلاً لأتحدث إليه , فرفض وقال أنه يجب أن يبيع ما معه من أغراض , فقلتُ له : سأشتري منك وسأعطيك ثمناً لجلوسك معي , فوافق .. ووضع مبيعاته على رمال الشاطئ الصفراء وجلس بجانبي .. سألته : ما اسمك وكم عمرك ؟ فأجابني بصوتٍ هزيل : اسمي مُحمد , وأنا في الصف الثاني الابتدائي .. فقلتُ له لماذا تبيع يا مُحمد ؟ ألا يَجدرُ بك أن تلهو وتلعب في إجازتك الصيفية القصيرة ؟ فطأطأ رأسه واقتربت عيناه أن تدمع , وقال : وكيف نعيش يا ... فقلت له : اسمي خليل , ثم أكمل قائلاً : توفي أبي .. وأنا وشقيقي الأكبر مني بثلاث سنوات نعمل لكي نوفر لأسرتنا قوت يومها , فأموال المؤسسات والجمعيات لا تكفي لتُعيل أسرتي .. أثر بي حالُ محمد كثيراً , فهو ليس وحده في غزة هاشم .. فكثيرٌ من الأطفال يعيشون ذات الحال الذي كتبه القدر عليهم ..
ولكي أقضي قليلاً على حُزن وألمِ مُحمد .. سألته عن دراسته , فرفع رأسه ورد بصوتٍ قوي : أنا الأول في الفصل وأحبُ الدراسة كثيراً , وعملي في الإجازة ربما يوفر جزءاً من ثمن الملابس والكتب حتى أكمل دراستي العام القادم , وصمت مُحمد لبرهة.. ثم قال : أريدُ أن أذهب .. فشكرته وأعطيته مبلغاً من المال , ردت الابتسامة المفقودة إلي وجهه , وطلبتُ منه أن يبقى متفوقاً في دراسته وأن يرضى بما كتبه الله عليه وعلى أسرته من بلاء ..
ذهب مُحمد بما يحمله معه من همومٍ وبلايا .. وظلت قصته تموج في ذاكرتي , فحاله ليس أفضلُ حالٍ من أطفالٍ دمَّر الاحتلالُ بيوتهم أو جرَّف أراضي أبائهم , أو قضى الحصارُ على مصادر رزق عائلاتهم ..
بقيتُ جالساً لوحدي مدةً قصيرة أتذكرُ قصصاً من الماضي .. حتى خرج صديقي من البحر وجلس معي , فتحدثنا وتكلمنا سوياً .. حتى أوشكت الشمسُ على الغروب , وفتح البحر جسده ليحتضنها بين جانبيه .. فقمنا لنغادر إلي بيوتنا .. وتركنا الـبـحـر يتلاطم بأمواجــه الهادرة ..

**************


الملك الصغير
بقلم / خليل نظير اللوقا

إن الناظرَ للعنوان .. يعتقدُ للوهلةِ الأولى أنني أتحدثُ عن قصةٍ غريبة أو واقعةٍ مريبة , ولكني هنا .. أعبرُ عن كائنٍ صغير , نجده دائما بجوارنا ونراه ورائنا أينما حللنا وارتحلنا ..
هذا الكائن هو بظاهرهِ ضعيف , ولكنه يمتلكُ أشد أنواع القوةِ والسلطان , ليس لأنه يملكُ قوةً عسكرية خارقة .. أو لديه أوامرٌ لا تُعصى ولا تُكسر , إنما نحن من نمنحه هذه القوة ونكسبه إياها , كذلك هذا الكائن البسيط .. لديه حمايةٌ خاصة والاقترابُ منها يعتبر تجاوزاً لخطٍ أحمرٍ عريض , والعقاب بعدهُ وخيم ..

أعرفتم عن من أتحدث ؟ .. نعم صحيح .. انه الطفلُ الصغير , هذا المخلوقُ البريء , الذي يُولدُ ملكاً ويعيشُ سنواتِ طفولتهِ سلطاناً , فأوامرهُ مُطاعة ومطالبهُ مُجابة , والابتسامة على وجههِ فرض , والضحكُ من شفتيه شرط , فالكلُ يحاولُ إرضاءهُ وكسب محبته ومودته , وإن أصابه مكروه تجد الكبير قبل الصغير يلهث لمعرفة السبب وإبعاد عنه الغضب , ومحاسبة الجاني ومساءلته ..
إذن .. هذا الطفل هو نموذجٌ مُصغر لملكٍ مَلَكَ الدنيا بحذافيرها , ولكن هذا الملك .. يختلفُ عن الملوك الكبار , أصحاب الكراسي والتيجان , فهو لم يملك الدنيا بجبروت أو حتى بقدرٍ كتبه واختاره الله له , إنما ملكها بضحكةٍ بريئة وابتسامةٍ رقيقة ودمعةٍ عكف الجميعُ على مسحها من عينيه السعيدتين , وهذا الملك .. لا يَكنُ حقداً لأحد أو بغضاً لشخص , ولا يعرفُ الحسد ولا الضغينة , فهمهُ الأول والأخير هو العيشُ بسلام , ومعرفة ما يدورُ حوله في هذه الدنيا العجيبة ..

والطفل يعيشُ سنوات ِطفولته سعيداً ومسروراً , فكلُ احتياجاته موجودة ومطالبه متوفرة , ولكنه لا يعلمُ بأن هذه الحيـاة .. سيتغيرُ مسارها ويتبدلُ اتجاهها , عندما يكبرُ فـي العمر , فالمقولة السائدة حُكمها يقول : " الطفلُ يلهو بالحياة صغيراً , دون أن يعلم أن الحياة ستلعب به كبيراً " ..
ولكن .. ينبغي لنا أن نَقفَ في هذا الموضع الجَللْ , ونعترفُ بأننا في واقعنا العربي المرير , لم نفرش الأرضَ للطفلِ زهوراً ولم نكسوها له وروداً , فقد عقدنا عليه الأمورُ منذُ صغره , فرأى معاناةَ والدهُ لأجل إدخال السعادةِ لقلبه , وشاهد تضحياتِ أمه في سبيل دوام البسمة المرسومة على وجهه .. وعندما دخل مدرسته في سنته الأولى , تراكمت عليه المناهج والكتب والدروس , بأسلوبٍ مخطط لتجهيل أطفالنا وإخراج جيلٍ لا يعرفُ غير الشارعَ ملاذاً والمدرسةَ ملهى والبيتَ مأوى لرقوده ونومه ..
ولكن في المقابل .. لماذا لا نسألُ أنفسنا بعضاً من الأسئلة التي تزاحمت في قلوبنا وتراكمت في عقولنا ..؟ هل الطفلُ الأمريكي أو الأوروبي أحقُ من أطفالنا في البيت السعيد والعيش الرغيد ؟ هل الطفل الأمريكي أو الأوروبي أفضلُ من أطفالنا عقلاً أو جسداً ؟ هل قمنا باستغلال مواهب أطفالنا وتنميتها وصقلها حتى نحصُلَ على العالِم المبدع والمُفكر البارع والطبيب الناجح والمدرس الفاضل والمحامي الفذ والقاضي الشجاع والجندي المغوار ؟ .. أم أخذنا نبحثُ عن مواهبنا ونُصدرها للخارج ؟ وكأن سوقنا العربي قد امتلأ بالناجحين والمبدعين والمفكرين !!

وختاماً لحديثي أقول : بأن الله قد منح الطفل مكانةً عليا ودرجةً سامية , وجعله أمانةً في أعناقنا , فواجبٌ علينا أن نربيه التربية السليمة , ونعيشه المعيشة الصالحة . وأن نجعلَ منه شاباً واعياً له دورٌ في المجتمع حتى نزدهرَ بالأمة ونرفع شأنها بين الأمم ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق